وأما قوله تعالى: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ))[آل عمران:7]، فإن المعنى مختلف عن هذين المعنيين، فليس المحكم هنا بمعنى المتقن؛ لأن القرآن كله متقن، وليس المتشابه بمعنى المتماثل؛ لأن القرآن كله متماثل. فقوله تعالى: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ))[آل عمران:7]: إما أنها غير منسوخة، أو محكمة بينة واضحة الدلالة بحيث لا تحتمل إلا معنى واحداً، كما في قوله تعالى: ((وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ))[البقرة:163]، فهذه الآية وأمثالها لا تحتمل إلا معنى واحداً، وفي الأحكام قوله تعالى : ((فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ))[البقرة:196]، فهذه آية محكمة بمعنى أنها لا تحتمل إلا معنى واحداً، فكل من يقرأ القرآن -وإن قل حظه من لغة العرب أو عِلْم التفسير- يعلم ذلك.
ومن أعظم الآيات المحكمات ما يتعلق بتوحيد الله عز وجل، مثل قوله تعالى: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ))[الإخلاص:1-4]، فهذه سورة واضحة محكمة بينة، ولا سيما في الرد على اليهود والنصارى الذين جعلوا لله ولداً، وكذلك ما يتعلق بصفات الله، وهي من أوجب ما يؤمن به الإنسان عند إيمانه بالله وبكتابه، فالعليم والحكيم والعلي والعظيم والسلام والمؤمن والمهيمن والعزيز والجبار والمتكبر وغيرها، كلها محكمة بينة واضحة الدلالة؛ ولهذا فإن أوضح شيء في القرآن هو أصل موضوع الأسماء والصفات والتعريف بالله سبحانه وتعالى.
ومن أوضح الأمور وأحكمها في القرآن إثبات اليوم الآخر، وكذلك الإيمان بالرسل والإيمان بالملائكة .. إلى آخر أركان الإيمان، فأصول الإيمان خاصة هي أوضح شيء في القرآن من حيث الدلالة والمعنى.
إذاً: فقوله تعالى: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ))[آل عمران:7] أي: أصله وأساسه الذي يرجع إليه، فلا بد من إرجاع المتشابه إلى هذا المحكم.
وقوله تعالى: ((وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ))[آل عمران:7]، (أخر) جمع أخرى، أي: أن هناك آيات أخرى متشابهات تحتمل أكثر من معنى، وهي التي تختلف فيها الأنظار والأفهام، فمن واجبنا في هذه الحالة أن نؤمن بها وأن نرد ما تشابه علينا إلى المحكم، فإذا قلنا: إن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ؛ فإننا نعمل بالناسخ، وأما المنسوخ فنؤمن بأن الله تكلم بهذه الآية وأنزلها لكنها نسخت، كما قال تعالى: ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا))[البقرة:106]، فالله سبحانه وتعالى ينسخ ما يشاء ويحكم ما يشاء، بمعنى: أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ.